مطر خلال تخريج في الحكمة: لا مهرب للدولة من حمل مسؤولياتها التعليمية

أطلقت جامعة الحكمة اسم الرئيس الأسبق لأساقفة بيروت المطران بطرس شبلي على الدفعة الجديدة من خريجيها في كليات الحقوق والقانون الكنسي والعلوم الكنسية والعلوم السياسية والعلاقات الدولية وكلية الإقتصاد وإدارة الأعمال وكلية السياحة وإدارة الفنادق وكلية الصحة، تخليدا لذكراه في مناسبة المئوية الأولى لغيابه، خلال الإحتفال الذي دعا إليه رئيس الجامعة الخوري خليل شلفون ورعاه رئيس أساقفة بيروت ولي الحكمة المطران بولس مطر، في حرم الجامعة في الأشرفية - كلية السياحة وإدارة الفنادق، بمشاركة رئيس اللجنة الأسقفية للمدارس المطران حنا رحمة وأعضاء مجلس الجامعة ولفيف من الكهنة والرهبان والراهبات وشخصيات سياسية وقضائية ونقابية وعسكرية وجتماعية.

بدأ الاحتفال بالنشيد الوطني ونشيد الجامعة وبكلمة تعريف للاعلامية كارولينا نصار خريجة جامعة الحكمة، وكلمة تقديم لأمين الجامعة الدكتور أنطوان سعد قال فيها: "ها هم أمام انظارنا ماثلون، ينظرون، ينتظرون، يتأهبون للانطلاق، يتخرجون ويخرجون الى العالم الأرحب. وها نحن هنا، شهود وشركاء، نشاطرهم اليوم فرح الحصاد فنحتفل معهم وبهم بالعيد الذي صنعوه، بالكد والجد والجهود، ونرى في عيونهم آفاقا جديدة لوطن موعود، تنتظر خيارهم وخطو اقدامهم والاقدام. إذا كنا كلنا في احتفالهم معنيين، فلأن لكل منا في شهادتهم مساهمة وشراكة، ولأن شهادتهم كجامعتهم وعائلتهم جزء من هويتهم، وهي جواز عبورهم الى معابر الحياة. هذه الهوية الحكموية التي بها يطلون وافياءها يتظللون تعني لحامليها الحرية والانفتاح، والمواطنية والاتزان، كما تحكي الوفاء وتعيش معنى الالتزام. في هذا المنطق، ومن هذا المنطلق، تحمل دورة هذا العام اسم المطران بطرس شبلي، من كان راعيا لأبرشية بيروت بين 1907 و 1917 وهو رجل ثقافة ورؤى، عاش وفيا لرعيته ملتزما قضايا امته، عاملا على تحرير الانسان والمواطن من تبعية ليست من طبعه واستسلام افقده سلامه والاحلام".

وختم: "من اجل هذا الانسان، المثقف والمتحرر، عاش المطران شبلي، وفي سبيله استشهد في منفاه التركي لمئة سنة خلت، وبقي في لبنان روحا يلهم ومثالا يوجه، شأن سلفه الدبس، مؤسس الحكمة الأول، وخلفه اليوم، سيادة بولس مطر، مؤسسها الثاني وباني جامعتها وحاضن أجيالها والتطلعات. فاهنأوا ايها المتخرجون بتراث تحملون، يكتنز معارف وقيما وقامات، وضعها التاريخ في وجدان حاضركم، امانة تنتظركم، وانتم أمناء أوفياء، مدعوون الى صناعة المستقبل، وانكم لقادرون".

القسيس
ثم ألقت طليعة الدورة الطالبة في كلية العلوم الصحية ريتا القسيس، كلمة الخريجين قالت فيها: "إنه يوم مفصلي في حياتنا، فيه يتحول الحدث العابر إلى حالة دائمة تستقر فينا، وتستمر معنا مدى العمر. هذه الحالة حافلة بمشاعر العرفان والإمتنان، وبالشعور بالمسؤولية والإلتزام, ونحن أمام مسار طويل ينتظرنا منذ الآن. أما العرفان فلمن كانوا معنا منذ البداية: الأهل والعائلة التي أمنت لنا ظروف الحياة والنجاح، والجامعة، بإدارتها وأساتذتها، التي أعدتنا ومدتنا بكل الوسائل اللازمة لبلوغ الهدف الذي سعينا إليه. فللبيت وللجامعة، ولعملهما المتكامل والمكتمل في شخصية كل منا نهدي شهاداتنا ونرفع قبعاتنا إمتنانا وتقديرا وعلينا وعلى الله الوفاء. وأما المسؤولية التي تنتظرنا فسوف نخوض غمارها بكل ثقة والتزام وقد تحصنا بالقيم والعلم، وبالعزم والإقدام، وتعودنا أن نتطلع إلى الأمام، وأمامنا الحياة، بحلاوتها والخيبات، بثوابتها والمتغيرات. ونحن، سلالة الحكمويين، واعون لما ينتظرنا ومتشبثون بما نحن عليه بفضل حكمة لم يبخل علينا بها حكماؤها شانهم مع أجيال كثيرة سبقتنا".

أضافت: "جمعتنا الجامعة على مدى سنوات حافلة بالمعاناة والتضحيات ولكنها ملأى بحلاوة الذكريات التي نحملها معا ونستطيب العودة إليها كما إلى جامعتنا كلما شدنا الوفاء ونادانا الحنين. فلتكن مسيرة كل منا في خدمة الوطن التي يحتاج الينا من خلال المجالات التي اخترنا خوض غمارها، في الحقوق وفي العلوم السياسية، في الشرع وفي العلوم الكنسية، في إدارة الأعمال وفي الإدارة الفندقية، وفي كلية الصحة العامة، كليتي الأم التي أوجه إلى عميدها وإدارييها وأساتذتها والى رفاقي فيها تحيتي ومحبتي الخاصة".

وختمت: "أنهي مجددة شكري لحضرة الأب الرئيس ولكل معاونيه، وللأساتذة وكل العاملين في هذه الجامعة الأصيلة التي منها نأخذ معنى الأصالة ودروس الوفاء، ومن قال الحكمة قال الوفاء".

شلفون
وكانت كلمة لرئيس الجامعة قال فيها: "الجامعة وإياكم على الموعد وعلى الوعد.فهي لا تتخلف عن مواعيد ولا تخل بوعود. والتخرج موعد ننتظره جميعا ووعد نجد في سبيله سنوات، نزرعه بالتعب والجهود ونحصده بالفرح والتهليل.
ولقاؤنا هذا هو في واقعه نقطة تلاق بين الانتظار والوصول، بكل ما تحمله المناسبة من مشاعر اعتزاز لنا جميعا، جامعة وأهلا ومتخرجين. فلنهنئ بعضنا بعضا بشهادة كان فيها لكل منا مساهمة وشراكة، ولنحيي شاكرين بداية صاحب السيادة، راعي هذه الجامعة وهذا الاحتفال، وهو من أطلقها جامعة تأخذ مكانها ومكانتها على الساحة الوطنية والعلمية، ولا يزال ساهرا على تطويرها على كل المستويات والاختصاصات. وإنها لمناسبة مناسبة كي نهنئ سيادته لنيله وسام جوقة الشرف من رتبة ضابط وهو الارفع في الجمهورية الفرنسية، منحه إياه رئيسها منذ ايام، تقديرا لقامته الكنسية والعلمية والانسانية والوطنية، وتكليلا لعطاءات وجهود يبذلها في كل الاتجاهات. سيدنا، من جديد مبروك. وان الوسام على صدركم يزهو ويتألق. اما دورتنا هذه فقد أطلقنا عليها اسم المطران بطرس شبلي - راعي ابرشية بيروت في أوائل القرن الماضي - لمناسبة المئوية الأولى لاستشهاده حيث مات منفيا في أدنة لأنه كان في طليعة الساعين الى تحرير لبنان من النير العثماني".

أضاف: "هذه التسمية التي تحملها دورة هذا العام تحمل أصحابها المتخرجين مسؤولية وطنية وإنسانية عظمى، مثلها المطران الشهيد، تقوم على عيش الحرية والسعي الى نشرها في حياة الانسان اولا، كما في حياة الشعوب والاوطان. ولعل ما أخذتم يا اعزاءنا في سنواتكم الجامعية المنصرمة يؤهلكم للعب أدوار وطنية وقيادية وإنسانية وثقافية عرف بها الحكمويون منذ ان كانت الحكمة سنة 1875. هذه الحرية لا تأتي من العدم، ولا من الجهل، ولا من الحقد او التعامي عن الحقيقة. بل هي بنت المعرفة، بنت الحق، فإذا عرفتم الحق حرركم - بحسب معادلة الانجيل- واذا كنتم احرارا غيرتم وجه العالم. وما كان أهل الحكمة إلا أحرارا. تخرجون الحين من حياة الجامعة الى حياة جديدة، الى العالم الأوسع. حيث ينتظركم كل شيء، ما تتوقعونه وما لا تتوقعون، ما تتوقون الى بلوغه وما يحول دون الوصول. الا انكم، بما تزخرون به من ايمان وعزم وإرادة، ومن حكمة واتزان ومقدرة على التمييز، ومن علم وثقافة ومنهجية تفكير، وبما اكتسبتم من عائلاتكم من قيم وفضائل، بكل هذا العتاد تستطيعون مواجهة عالم اليوم بكل ما فيه من تحديات أخلاقية اولا، ومادية ثانيا، ومجتمعية ثالثا، تزيدها أحوال البلاد والمنطقة ظلما وظلامية. اما جامعتكم التي تخرجون منها - وأنتم باقون في وجدانها - فهي الجامعة التي تجمع، وتقف على تقاطع بين كل الاتجاهات والتوجهات، تقرأ رسالتها وتاريخها على ضوء حاجات الحاضر ورؤى المستقبل، عاملة على انتاج المعرفة ونقلها ونقدها، تعيش مفهومها الجامع سواء على مستوى العلوم والاختصاصات - وقد تنوعت وتشعبت وتعمقت وتداخلت - ام على مستوى الاجتماع الإنساني، وهي من تحتضن الاف الطلاب والأساتذة والاداريين، يسيرون معا بتناغم وتفاعل وتكامل نحو بلوغ المرامي المرجوة. ونحن في هذا الإطار عاملون في خضم ورشة تركيز هويتنا الجامعية وتحديث مناهجنا الاكاديمية وتوحيد مفاهيمها العلمية، ويندرج كل ذلك في مسيرة ضمان الجودة وبلوغ الاعتماد".

وتابع: "أما طلابنا فهم رسالة الجامعة وقلبها النابض، وقد كان للورشة الإصلاحية التي نقوم بها اهتمام خاص بهم فعززنا مكتب القبول والتوجيه، وركزنا مكتب التسجيل وكان لمكتب شؤون الطلاب ولمتابعة قضاياهم الاكاديمية والجامعية وللمرشدية دور أساسي في مسيرتهم الجامعية بالإضافة الى الدور الاجتماعي لمكتب المساعدات التي تؤمنها الجامعة لطلابها، وهي تتضاعف عاما بعد عام، وتحاول بصعوبة واضحة مواجهة بعض الأعباء الكبيرة التي ينوء تحتها مجتمعنا اليوم. اما أسواق العمل التي تنتظر الخريجين فقد حاولنا استكشافها من خلال اختيار الاختصاصات المطلوبة، وتوجيه الطلاب بحسب رغباتهم وقدراتهم، ومن خلال معارض المهن، والمتابعة اللاحقة للخريجين وذلك ايمانا منا بأن الاسوار الجامعية التي كانت تفصل الصفوف عن المؤسسات والوظائف قد سقطت، وان تداخلا جوهريا بات واقعا بين ضفتين كانتا حتى الامس القريب في حال انفصال. وليسمح لي في هذا السياق ان أحيي الجسم التعليمي في جامعتنا حيث الأساتذة الأكاديميون المتفرغون والمعلمون الاتون من خبرات غنية كالقضاة في كلية الحقوق، والأطباء في كلية الصحة، والمهندسين في كلية الهندسة، ورجال الاعمال في القطاعات الاقتصادية والفندقية في كليتي إدارة الاعمال والفنادق. كما أحيي الإباء والقضاة الروحيين الذين يعطون من قلبهم وعقلهم ومن صميم رسالتهم الكهنوتية. وإني اذ اشكرهم جميعا وأقدر ما يبذلون، أحيي عمداء الكليات ورؤساء الأقسام والمنسقين وكل العاملين في الإدارة الجامعية. كما أخص معاوني الاقربين في رئاسة الجامعة عنيت نائبي الرئيس والأمين العام والقيم على التزامهم الفاعل والمسؤول في رسالة الجامعة وورشة تجديدها المستمر".

وختم: "إن جامعة الحكمة الامينة على تراث كنسي ووطني وثقافي عريق، امينة ايضا على عهود ومواثيق، لا توقعها بمفردها بل مع شركائها الطلاب والمتخرجين ومع الاهل والأصدقاء. فكلكم تحملون هذه الأمانة، وكلكم حولنا اليوم، كما بالأمس كنتم، تصنعون العيد، وكلنا معا نحو المستقبل الواعد سائرون".

5b41c7ace1983 43A0495

مطر
وقبيل تسليمه مع رئيس الجامعة وأمينها العام وعمداء الكليات الشهادات للخريجات والخريجين، ألقى راعي الإحتفال كلمة قال فيها: "احتفال التخرج هذا لدفعة جديدة من جامعيي الحكمة الأعزاء، إنما هو موعد يضربه الحاضر مع المستقبل كما الزهر مع الثمار والأحلام مع تحقيقها إلى واقع ملموس. فأنتم أيها الشبان والشابات الخريجون، الذين نهلوا من الجامعة المعرفة الموسوعية والتخصصية في آن، وتهيأوا لخوض غمار الحياة والعمل على غير صعيد، قد صرتم أملا جديدا مطلا على لبنان، فيما هو بحاجة قصوى إلى أمثالكم يوقظون في شعبه الثقة بأن ما يرغب فيه من استقرار لوطنه وعزة لأبنائه تبدو ملامحه اليوم منعكسة على وجوهكم. فاذكروا أولا أنكم شباب وطن تميز منذ نشأته بالحرية، لتحافظوا عليها كنز الكنوز وتحموها من أي خطر يتهددها أو يمس بوجودها. فالحرية لا يحميها ولا يستحقها إلا الأحرار والمستعدون لدفع الأثمان غالية لتبقى في أوطانهم وتزدهر وأي ثمن أغلى من الحياة، نقدمها قربانا في سبيل أمة وشعب على غرار المطران الشهيد بطرس شبلي، أحد أسلافنا الكبار، وقد اخترتم اسمه عنوانا لدورتكم، وأخالكم تقتفون أثره في العمل من أجل الإنسان المؤمن والمثقف والوطن الحر. واعلموا أيضا أن الحرية لا يحافظ عليها إلا بالحرية. فلا استبداد يفيدها ولا وصاية عليها من أحد، كائنا من كان. إنها هي المبتدأ في حياة الشعوب وفي كراماتها وكل ما عداها هو الخبر. هي مصدر الحقوق في الدنيا ولولاها لما كتب قانون ولا وضعت دساتير. غير أنها حرية مسؤولة دائما عن أصحابها وهي تدعوهم جميعا إلى العقلانية وإلى احترام حرية الآخر ليكون في الأرض تجانس بين الأحرار وتوافق على المنحى الإنساني لحضارة الحياة. هكذا هو لبنان، وقد ولد من رحم الحرية إذ التقت فيه جماعاته وطوائفه منشدة لذاتها الحرية الدينية والإنسانية على حد سواء. وعندما توافق أهله على العقد الجماعي الذي عبر عن كيانهم الموحد، كانت إرادتهم في أن تبقى هذه الحرية علامة فارقة في حياتهم. فسطع نجم لبنان في منطقته كواحة حرية وكمثل يحتذى به في أي تلاق مفرح بين أقرانه وبين الحرية".

أضاف: "الأساس الثاني الذي يرتكز إليه لبنان هو في الحياة الديمقراطية والمشاركة في الشأن العام لجميع مكوناته ضمن المساواة بين الجميع والمواطنة الكاملة لكل منهم، أفرادا كانوا أو جماعات. فهلا تنبهتم أيها الشباب إلى هذه المجموعة من القيم ومن المنجزات التاريخية التي سوف تتسلمون عندما تصل إلى أيديكم ناصية الحكم في هذا الوطن العزيز؟ فلا تمييز يقبل عندنا بين أكثرية وأقلية، ولا حكم يعطى أو يؤخذ بيد فريق دون آخر، لا باسم الدين ولا باسم المذهب ولا باسم عقيدة فكرية أو نظام موضوع. وإن كان المنحى الغربي من الكرة الأرضية قد ركز على المساواة المطلقة بين جميع الأفراد، فالمنحى اللبناني قد أضاف إلى هذه المساواة الفردية مساواة في الحقوق والواجبات بين الجماعات أنفسها فلا تضيع إحداها في البحر الأكثري دون احترام لخصائصها التاريخية والروحية والثقافية الثمينة. ولقد جاءت هذه المشاركة في الشأن العام بين الأطياف علامة صحة في مسار الوطن منذ تكوينه إلى الآن. وتحول غياب هذه المشاركة أو تعثرها في بعض الأحيان إلى مصدر خضات في حياة البلاد. فالمعول عليكم أيها الشباب أن تولوا هذه المشاركة الدقيقة الأولوية التي تستحق، فيتعلم جيل اليوم من أخطاء أجيال سابقة ويبقى لبنان نورا على جبل يسير بهديه كل من رغب في اتباع الهدى. لقد ارتكبنا أخطاء كثيرة في ممارساتنا، تارة بحق أنفسنا وطورا بحق بعضنا البعض عن طريق المس بمبدأ المشاركة التي وجد لبنان فيها قيمته السميا. فهلا صححنا هذه المسارات وسلكنا الطريق المرسوم لنا والمؤدي بنا حتما إلى التألق والنجاح؟ إن في هذا الأمر تحديا كبيرا لأجيالكم الطالعة، فتنبهوا له أيها الشباب كما يجدر بكم ويليق".

وتابع: "إن لنا أساسا ثالثا في حياتنا العامة نرتكز إليه. ومن دونه لا قدرة لنا على حماية قيمنا الوطنية والحفاظ عليها لاصطلاح حياتنا العامة في وطننا. هذا الأساس هو أساس المحاسبة الذي يؤدي إلى الشفافية وإلى استقامة أمور الحكم في البلاد بصورة أكيدة. وإلا فنحن نجمع كنوزنا بيد ونبددها بيد أخرى معرقلين طريقنا بطريقتنا، كما نخشى أن نكون اليوم فاعلين. فبعد أن أكد لبنان أحقية عدم حرمان أي مواطن من المشاركة في الحكم، وبعد أن صار لنا قانون انتخاب يؤمن هذا المطلب. وبعد أن تعودنا مجددا أن نشرك جميع التيارات والهيئات في السلطة التنفيذية الواحدة، وهذا أمر يتطلع إليه الناس في الدنيا بأسرها؛ لم نتنبه بما يكفي لنظام محاسبة الحاكمين أمام الناس عبر المجلس النيابي، لأن المجلس صار حاضرا بفئاته المنوعة كلها في قلب السلطة التنفيذية، وهو بذلك يفقد القدرة على الرقابة المطلوبة والمحاسبة التي لا بد منها لتستقيم الأمور. فكيف نؤمن بعد ذاك مكافأة الناجحين عبر تجديد الثقة بهم ودعوة الفاشلين للذهاب إلى بيوتهم، وذلك باسم الخير العام الذي يجب أن يعلو كل مصلحة فردية أو فئوية، كائنا من كان أصحابها والمفيدون منها؟ والأمور أن تقال بصراحة فأننا باعتناقنا المحدث لمبدأ التوافق لا على جوهر الأمور وحسب بل أيضا على التسيير العادي لشؤون الحكم وعلى اختيار الأشخاص لهذا العمل، قد صرنا بحاجة إلى استبدال ترجيح الرأي الأكثري وتوظيف الرأي الأقلوي في خانة معارضة مسؤولة ومقبولة، بإيجاد صيغة خلاقة تؤمن المحاسبة وتضمن استقرار الحكم وتواصل إعلاء شأن الخير العام دون سواه. فيا أيها الحقوقيون الطالعون إلى ساح الفكر والعمل، ويا أيها الرؤيويون لصالح بلادكم، أنتم جميعا مدعوون إلى تطوير أنظمة المحاسبة والمراقبة، وتأمين تداول السلطة بالوسائل السليمة والسلمية. فنضمن كنوزنا الوطنية الكبرى، ولا نفقدها لعدم خلق شبكة أمان دستوري لها تنجيها من الضياع".

وقال: "أما المرتكز الرابع لبناء دولتنا القادرة والمنيعة، فهو في إعطائها قلبا وقالبا صفة الدولة الساهرة والمعتنية بشعبها وبأبنائها في أي حالة يعرفونها أو يمرون بها. فالدولة التي كانت لنا في البدايات، أي منذ مطلع القرن العشرين الماضي، كانت قد انطلقت وفي ملامحها صورة دولة البوليس، التي تحمي الأمن ولكنها لا تتعاطى بما يكفي أمر حاجات المواطنين الاجتماعية والإنسانية. هكذا كانت الدول سابقا وعلى مستوى العالم بأسره. أما اليوم، وبفضل نضال المناضلين من أجل حياة أفضل للأفراد والشعوب، فإن الدول بمجملها قد تحولت إلى دول تنحني على شعوبها لتوقيها من العوز، ولتنظم التضامن الوطني فيها بحيث تصبح قادرة على مواجهة أعباء الصحة والتعليم والعمل والسكن وسائر متطلبات الحياة. وصار الناس على استعداد لاعتبار أية دولة تعجز عن تأمين مثل هذه الأمور لشعبها وكأنها دولة فاشلة في حياتها ومسؤولياتها الأساسية الكبرى".

أضاف: "من هذا التغيير في المفاهيم لدور الدول وواجباتها، نضيء اليوم على مشكلة التعليم في لبنان وهي على الطريق لكي تصبح مأساة اجتماعية ووطنية خطيرة. فمن المعروف أن الدولة هي المسؤولة أساسا عن تأمين التعليم لأبنائها وعلى كل المستويات الابتدائية والثانوية والجامعية. ولئن كان القطاع الخاص يهتم بتأمين العملية التعليمية لعدد كبير من الطلاب يبلغ اليوم عندنا ثلثي تلامذة لبنان، فإن هذا القطاع يخفف عن كاهل الدولة الكثير من أعباء هذا التعليم. ولكن إذا عجز هذا القطاع عن الاستمرار في تعليم أولاد لبنان المنضوين تحت لوائه، وذلك لأسباب اقتصادية خطيرة، فإن على الدولة أن تنكب على هذا الموضوع فتتخذ القرارات والتدابير اللازمة لكي لا يحرم التلامذة في هذا القطاع من نعمة التعليم ويتحولوا إلى مشردين في الآفاق. والحال أن الأهلين الذين كانوا قادرين سابقا على تأمين تعليم أولادهم في القطاع الخاص، قد باتوا بأغلبيتهم عاجزين عن هذا التأمين بفعل تدهور الأحوال الاقتصادية في لبنان وعدم تفاهم القيمين بالعمق والسرعة المطلوبين على إنهاض لبنان من كبوته ليعود إلى القدرة السابقة التي كانت تتميز بها طبقاته الوسطى. فلا مهرب للدولة اليوم ولا غدا من حمل مسؤولياتها التعليمية على غرار الدول التي تعنى بشعوبها وترعاها حق رعايتها. لذلك ندعو المسؤولين عندنا إلى التلاقي مع القيمين على القطاع الخاص ومع أهل الرأي في شؤون الاقتصاد والموازنة من أجل وضع خطة للقيام بالواجب حيال تلامذة لبنان المنضوين في القطاع الخاص، ومساعدة أهلهم على تأمين فرص التعليم لهم أسوة بالتلاميذ الذين يرتادون المدارس الرسمية، دون أن يرهق أهلهم بحمل أعباء لا يستطيعون حملها. وإلا فإن الهيكل سينهار لا سمح الله على ساكنيه وتكون هناك الطامة الوطنية الكبرى. غير أن لنا أملا كبيرا بفخامة رئيس البلاد وهو الساهر على أبنائه في لبنان سهر الأب المحب والقائد الأمين، والذي أعطي اليوم رئاسة الدولة في لبنان لينهض بها فتعلو إلى مستوى الدول الراقية والمسؤولة عن خير شعبها وتأمين الحياة له بكرامة واكتفاء. ولنا رجاء وطيد بأنه سيخلق جوا وطنيا يحمل معه جميع المسؤولين إلى مؤازرته في عملية الإنهاض هذه".

وختم مطر: "أما أنتم أيها الخريجون الحكمويون، فعليكم المعول في الاندراج على كل صعيد في عملية تركيز الدولة الجديدة إلى مرتكزاتها الأربع التي ذكرناها، أي الحرية والديمقراطية والنظام الملائم لهما والخليق بهما والعناية بالشعب لكي يحيا بكرامة ويحقق دور لبنان الرسالة والمثل والمثال. ونحن على هذا الأساس نهنئكم اليوم بتخرجكم الواعد إلى ساحة الإبداع، وندعو لكم بالتوفيق في كل ما ستقدمون عليه للوصول إلى الغايات المنشودة، سائلين الله أن يبارككم وأن يكافئ خيرا جامعتكم والقيمين عليها رئيسا وهيئات تعليمية وإدارية ويرد لأهلكم أضعافا لما عانوا من أجلكم وتكبدوا، فينهض الوطن إلى علاه وتستمر الحكمة بعطائها، بروح التضحية التي جسدها المطران بطرس شبلي وقوافل الشهداء وتحيون بفرح يسير ويحيا بكم لبنان".