كلية الحقوق في جامعة الكسليك احتفلت بعيدها الخامس والعشرين بحضور البطريرك الراعي
بداية كانت كلمة ترحيبية لعريفة الحفل الدكتورة دارينا صليبا أبي شديد.
الأب هاشم
ثم تحدث العميد المشارك في كلية الحقوق الأب طلال الهاشم الذي قال: "أشكر حضوركم من لبنان ومن الخارج، أي من مختلف الجامعات والمحاكم الوطنية والدولية، للمشاركة في هذا الحفل. ولا بدّ من القول إنّ الدعوة إلى إقامة "حوار للقضاة" يدلّ على دخولنا في عصر جديد ألا وهو عولمة القانون. والجدير ذكره أنّه ثمّة شكوك حول إمكانية إقامة حوار بين قاضيين عندما تنشأ بينهما علاقة سلطات. إلى ذلك، ثمّة حوار للقضاة مع العقيدة والمجتمع، لأنّ القاضي ليس بمنأى عن العالم الخارجيّ". وأكد "أن الحوار مع المجتمع هو أحد شروط العقد الاجتماعي. وهنا تكمن مسؤوليّة القاضي، ألا وهي: استخلاص حوارات عدّة، من خلال خطابه الذي يشكّل حواراً بحدّ ذاته".
حوار القضاة
ثم كانت محاضرة بعنوان: "حوار القضاة"، شارك فيها رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد، رئيس المجلس الدستوري القاضي عصام سليمان، ورئيس مجلس شورى الدولة القاضي شكري صادر، رئيس المحكمة الودلية الخاصة بلبنان القاضي دايفيد باراغواناث، القاضي فرنسوا ويبير من محكمة النقض الفرنسية، نائب رئيس المحكمة الخاصة بلبنان القاضي رالف رياشي، القاضي غريغوري مايز من الولايات المتحدة الأميركية، والقاضي تيري لو روي وأدارها مسؤول العلاقات الدولية في نقابة المحامين المحامي جو كرم.
ويذكر أنه يعود أصل تعبير "حوار القضاة" إلى برونو جينيفوا، أمين عام المجلس الدستوري والمستشار في الدولة الفرنسية. وقد أصبح هذا التعبير موضوع العديد من المؤتمرات والمنتديات ومقالات المجلات القانونية المتخصصة في فرنسا وفي العالم. ويمكن إثارة هذا الموضوع من وجهات نظر خمس مختلفة وهي أوجه الشبه والاختلاف بين فقه المحكمة الابتدائية ومحكمة النقض، والتفسيرات المختلفة للقانون من قبل المحاكم العليا: محكمة النقض ومجلس الدولة والمجلس الدستوري، والعلاقة بين المحكمة المجتمعية والمحكمة الوطنية (في فرنسا) من جهة، والمحكمة الخاصة بلبنان والمحكمة الوطنية (في لبنان)، والفرق في دور القضاة في نظام القانون المشترك ونظام القانون المدني.
الأب محفوظ
ثم عرض وثائقي عن تاريخ كلية الحقوق وتميزّها، وتركيزها على الجودة ونوعية المتخرجيين. ثم ألقى رئيس الجامعة الأب هادي محفوظ كلمة قال فيها :"المساهمة، والتناغم، والحقّ، والإعلاء، والعرفان بالجميل. هي المفاهيم التي توحيها جولة الفكر في مساحة الربع قرن من عمر كليّة الحقوق في جامعة الروح القدس – الكسليك. فعندما نصل حاضرنا بسنة 1988، تاريخ بداية الكليّة، تنجلي للفكر مساحة هانئة، فيدخلها، ويلتقي أناسا كثيرين تفاعلوا مع الكليّة، ويتوقف، متمهّلاً، أمام محطات فريدة من تلك المساحة الجميلة، مساحة اليوبيل الفضيّ لكليّة الحقوق". ثم أشاد الأب محفوظ ببمساهمة كل من عمل في الكلية معتبرا أنها "مساهمة سامية، لأنّها من دعوة الإنسان في الوجود". وأضاف: "ومن خلال مبدأ المساهمة، يطلّ مبدأ التناغم. فبقدر ما يخدم الإنسان القضايا الخيّرة، بقدر ما يتناغم مع الذات ومع الآخرين ومع الله. فتخرج من ذلك سمفونية جميلة جدًّا. وإحدى هذه السمفونيات هي كليّة الحقوق. فنراها كليّة بنيت على أساس صلب وعلى تقليد عريق، وفق نظام معيّن، من جهة، كما نتيقّن شجاعتها في تبديل واقعها ونظامها وفي كيفيّة انفتاحها على العالم وعلى طرائق الحوكمة وعلى التكنولوجيا وعلى منطق مختلف في موقع الأستاذ وموقع التلميذ، من جهة أخرى. فيتناغم تاريخ هذه الكليّة مع مسيرة جامعة الروح القدس، التي تحاول، بلا هوادة، التموضع في العالم الجامعي العالمي والمساهمة الحقيقيّة في بنائه". وأشار إلى "أنه قد ساهم الكثيرون، بكلّ تناغم، بإعلاء الحق، وإعلاء الإنسان وإعلاء الكليّة والجامعة. من جبيل إلى الكسليك، مسيرة وضّاءة تعكس مفاهيم نيّرة تستمدّ ماويّتها من مبادئ الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة التي تنتمي اليها الجامعة"، معربا عن شكر الجامعة وعرفان جميلها لكلّ من تعب في هذه كليّة أو من أجلها. واختتم: "كيف للفكر، وهو يزهو في مساحة الخمس والعشرين، ألا يستوقف أحد المساهمين والمتناغمين والمعلين الكبار، ليس فقط في تاريخ الكليّة، بل أيضا في تاريخ قضيّة الحقّ والعدل والحياة؟ هو الراعي والمعلّم المعلن أبدا كلمة الله، هو الذي جلس على كرسيّ الأستذة فيها، وهو الجالس على كرسيّ أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الكلي الطوبى. لكم الشكر يا صاحب الغبطة والنيافة ولكم كلّ المحبّة البنويّة من صرح يفرح كلّما قدمتم اليه تباركونه وتعلنون منه كلمة تضيء العقل والذهن والروح".
البطريرك الراعي
ثم ألقى البطريرك الراعي محاضرة عن : "القانون والعدل"، متناولا الموضوع بأربع نقاط: الإنسان كأساس للقانون والعدالة، مفهومهما، أجوبة على تساؤلات، وأخيرا ما تحتاج إليه العدالة لكي تكون كاملة.
وفي المحور الأول "الإنسان أساس القانون والعدالة" أشار الراعي إلى "أنه لكي نتكلّم عن القانون والعدالة، وكلاهما يتعلّقان بالشخص البشري، ينبغي الانطلاق من السؤال الأساسي: "ما هو الإنسان"؟ مجيبا "أنه كائن ذو علاقات، كائن إجتماعيّ. وهو في علاقة دائمة مع العالم الذي يحوط به، ومع غيره من الأشخاص. أن يكون في علاقة مع الآخر، فهذا من صميم طبيعة الكائن البشري. من هنا كان المبدأ: حيث الإنسان هناك المجتمع". وأضاف: "من ضمن هذه العلاقة، لكل شخص في المجتمع خياراته المختصّة بأموال وقيم وحقوق، ينبغي احترامها بين شخص وآخر. ولكن في ممارسة حرية الخيارات يمكن أن يضع واحد ذاته في علاقة سلبية مع غيره، عندما لا يحترم حقوقه الشخصية. فكان من الضرورة وجود قانون وسلطة يمنعان حصول هذه العلاقة السلبية، من تسلّط واعتداء وانتهاك. فكان المبدأ الثاني: "حيث المجتمع هناك القانون، وبالتالي: "حيث الإنسان هناك القانون".
وعن مفهوم القانون والعدالة، لفت الراعي إلى "أن القانون يضمن الإطار الذي يحفظ أموال الشخص وقيمه وحقوقه، ويضمن احترامها في خيارات الآخر. وعندما يحصل اعتداء على شخص في أمواله وقيمه وحقوقه أو مخالفة للقانون، تأتي العدالة لتطبّق القانون، وتزيل الاعتداء والمخالفة. العدالة هي قول القانون في هذه الحالة على لسان قاضٍ. فالقاضي هو الذي يقول العدالة، مطبّقًا القانون على الحالة المطروحة. فكان المبدأُ الثالث المكمّل للمبدأين الأوّلَين: "حيث المجتمع هناك العدالة". وأضاف: "العدالة هي احترام النظام العام الشامل للجميع، فتسمّى العدالة الاجتماعية التي تحفظ مكوّنات المجتمع في نظامه الخاص بإعطاء كلِّ واحدٍ ما هو له... لفظة Droit تعني، من جهة، الحقَّ والحقوق، ومن جهة أخرى، القانونَ أو الشرع الذي يتكوَّن من مجموعة شرائع أو قوانين تُعلنُ الحقوقَ وتنظمُها. فنقول: الشّرع أو الحقّ الكنسي، والحقّ القانوني، والشّرع المدني أو الحقوق المدنية. ونقول: الحقّ الإلهي لنعني الشريعة الإلهية الموحاة، والحقّ الطبيعيّ، والشرائع المكتوبة من الخالق في طبيعة الإنسان. ونقول أيضًا: الشّرع العام الذي يطال جميع مكوّنات الدولة أو الجماعات الكنسية، والشّرع الخاص الذي يختصّ بفئة أو بجماعة معيّنة. العدالة تحمي الحقوق الشخصية بواسطة تطبيق القوانين والشرائع. هذه الحقوق الشخصيّة نطالب بها لدى العدالة في المحاكم، حيث يعلن القاضي العدل في حكمه وقراره. وكذلك الخير العام، مثل الحقوق الشخصيّة، يعلنه القانون، وتضمنه العدالة وتحافظ عليه إذا انتهك. ذلك أنّ من الخير العام يتوفّر خير كلّ إنسان وخير الجميع".
وفي المحور الثالث تساءل البطريرك أين يختلف القانون عن العدالة وأين يلتقيان؟ وهل يختلطان؟ فرأى أنه "يختلف القانون عن العدالة في المعنى: فالقانون يعلن الحقوق الشخصيّة والعامة وينظمها، أمّا العدالة فتضمنها في الممارسة وتحميها عند انتهاكها. وجد القاضي ووُجدت المحكمة لهذه الغاية. على هذا المستوى ليس القانون والعدالة مرادفين... كما سأل: هل احترام الشريعة أو القانون كافٍ لتأمين العدالة وتحقيق عالم عادل؟ وأجاب: "تقاس العدالة والعالم العادل بمقياس الشخص البشري لا بمقياس القانون الذي قد يكون ظالما عندما لا يحترم كرامة الشخص أو حقوقه الأساسية أو حرياته. فكرامة الإنسان تأتي من كونه مخلوقًا على صورة الله ومثاله... لذلك نجيب على السؤال بالنفي: أي لا يكفي احترام الشريعة لتأمين العدالة ولتحقيق عالم عادل. فعندما تنتهك الشريعة كرامة الشخص البشري وحقوقه وحرياته وخيره الروحيّ والمعنويّ والماديّ، وعندما تتقيّد ممارسة العدالة بالحرف لا بالروح نقول: لا يمكن الاكتفاء بالشريعة لتأمين العدالة، "فالحرف يقتل أما الروحُ فيحيي"
وعن موضوع حاجة العدالة لكي تكون كاملة، قال الراعي: "تحتاج العدالة، لكي تكون كاملة، ولا ظلم فيها، إلى إنصاف ومحبة ورحمة. تحتاج إلى الإنصاف. هذا لا نجده في القانون المدني، بل في الكنسي. الإنصاف القانونيّ يقتضي اللجوء إلى عدالةٍ أعلى من العدالة الوضعية، هي العدالة الإلهية التي تعبِّر عن محبة الله وتقود إليها، وتهدف إلى الخلاص الأبدي، فتسعى إلى شفاء الإنسان وتربيته، بدلاً من معاقبته... وتحتاج العدالة إلى المحبة. العدالة فضيلة إنسانية، إلى جانب الفطنة والشجاعة والاعتدال، أمّا المحبة ففضيلة إلهية مثل الإيمان والرجاء، بمعنى أنها تعبير إلهي فينا. "فالله محبة"، وخلقنا على صورتِه، وسكب محبته فينا بالروح القدس. المحبة شريعة إلهية أساسية في الكتب المقدسة ووصية المسيح الكبرى. المحبةكمال الإنسان..." وأضاف: "وتحتاج العدالة أخيرًا إلى الرحمة التي هي طريقة خاصّة تتجلّى بها المحبة. في سرّ الصليب كان اللقاء المذهل بين العدالة الإلهية التي اقتضت موت ابن الله المتجسّد تكفيرًا عن خطايا البشر، والرحمة التي افتدتهم بموت الابن الوحيد وغسلت خطاياهم بغفران دمه. فكانت "الرحمةُ قُبلةً طبعتها على جبين العدالة"...بين الرحمة والعدالة رباط عميق. "إذا كانت العدالة تقوم بدور الحَكَم بين الناس في توزيع الخيور المادّيّة في ما بينهم بطريقة متوازنة، فإنّ الرحمة تستطيع وحدها أن تُعيد الإنسان إلى نفسه. إذن، هي أكمل تجسيد "للمساواة" بين الناس، وبالتالي أكمل تجسيد للعدالة. المساواة التي تَقرُّها العدالة تنحصر في حدود الخيور المادية الخارجية، فيما الرحمة تحمل الناس على التلاقي على هذا الخير الذي هو الإنسان... وهكذا تصبح الرحمة عنصرًا لا غنى عنه لإنشاء العلاقات المشتركة بين الناس، بروح الاحترام العميق لكل ما هو إنسانيّ وللأخوّة المتبادلة"(البابا يوحنا بولس الثاني، في الرحمة الإلهية، 14)".
واختتم مؤكدا: "ما أحوج مجتمعنا إلى عدالة مُنزَّهة من التسييس والرشوة والتمييع! وما أحوج العدالةَ إلى إنصاف ومحبة ورحمة. نأمل أن يكون يوبيل الخمس والعشرين سنة لتأسيس كلية الحقوق في جامعة الروح القدس - الكسليك قبلة في جبين هذا النوع من العدالة الذي تعزّزه تثقيفًا وتربية".
واختتم الحفل بعشاء اقيم في المناسبة.