مؤتمر عن الفكر الإنسانوي في الثقافة العربية في الكسليك
نظم مكتب نائب رئيس الجامعة للشؤون الثقافية في جامعة الروح القدس - الكسليك، بالتعاون مع اللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو، مؤتمرا حول "الفكر الإنسانوي في الثقافة العربية"، في حضور النائب فريد الخازن، الأمينة العامة للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو الدكتورة زهيدة درويش، النائب الأول لرئيس الجامعة ومدير مركز دراسات الأقليات في الشرق الأوسط في الجامعة الأب البروفسور يوحنا عقيقي، النائب السابق كميل خوري، نائب رئيس الجامعة للشؤون الثقافية البروفسورة هدى نعمة، وحشد من الآباء وأعضاء مجلس الجامعة والباحثين والأساتذة والطلاب.
درويش
استهل المؤتمر بكلمة تقديم للدكتورة كارين نصر دمرجيان، ثم كانت كلمة للأمينة العامة للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو الدكتورة زهيدة درويش أوضحت فيها سبب اختيار فكرة هذا المؤتمر "الفكر الإنسانوي والثقافة العربية"، هو "لأننا نعيش في فترة تغريب عن تاريخنا وعن ثقافتنا وعن تراثنا من جهة، ولأن البشرية جمعاء بحاجة اليوم بأن تعود إلى فكر الإنسان من جهة أخرى. ومنذ ثلاث سنوات، وضعت منظمة اليونيسكو في أولوياتها إعادة الاعتبار إلى تعميم العلوم الإنسانية في الجامعات، وذلك إدراكا منها أن الحضارة المعاصرة يغلب عليها الطابع المادي. للأسف، إن التقدم التكنولوجي الذي له حسنات جمة، إنما له سيئات أيضا، إذ يطغى على المدى الثقافي الروحاني الإنساني بمعناه العميق. ومن هنا تبرز الحاجة إلى إعادة الاعتبار إلى الإنسانيات أو العلوم الإنسانية من جهة وللفكر الإنسانوي من جهة أخرى، لأنه يضع الإنسان في مركز محوري في الحضارة".
وتابعت: "يطغى في زمننا الحاضر الاعتقاد أن الثقافة العربية قائمة على العنف والجمود والتعصب، وكأن هناك إرادة أن ننسى نحن بداية، وأن ينسى العالم من حولنا استطرادا، أن الإنسانوية قد بدأت من عندنا. لو عدنا إلى التاريخ، لوجدنا أن الفكر الإنسانوي قد بدأ في القرن السادس عشر في الغرب مع عصر النهضة. أما في المشرق العربي وفي الثقافة العربية، فالفكر الإنسانوي قد سبق هذا التاريخ، ربما لأن لدينا إرثا دينيا مهما. قد تقولون اليوم أن الدين هو المشكلة، صحيح أن التعصب ينشأ عن الدين، وإنما هذا انحراف للمسار الديني. لو أخذنا المسيحية مثلا، هل وضعت الإنسان في قلب الحضارة؟ نعم، لأن المسيح هو إله تجسد في صورة إنسان، أي في المسيح الإنسان تتحقق الألوهة. وفي الإسلام، هل وضع الإسلام الإنسان في محور الكون؟ نعم، إنما يكون الله قد استخلف بني آدم على هذه الأرض، أي أنه جعله أمينا عليها ومؤتمنا عليها مثله، إذا في لا وعينا المشرقي، مجتمعاتنا المشرقية هي مجتمعات دينية، وهذا ليس عبئا عليها، قد يعيب علينا الكثيرون أن للدين أهمية قسوة في حياتنا. ربما هذه حسنة، لأن هذا الارث الديني بمعناه الأصيل وليس بانحرافاته التي نشهدها اليوم، هو أساس إنسانويتنا وانفتاحنا على الآخر وهو أساس ما يمكن أن نثري به الانجازات البشرية".
عقيقي
ثم ألقى كلمة الجامعة النائب الأول لرئيس جامعة الروح القدس ومدير مركز دراسات الأقليات في الشرق الأوسط الأب البروفسور يوحنا عقيقي اعتبر فيها أن "الفكر الإنسانوي في الثقافة العربية عنوان إنسي بصورة عامة وسياسي موجه بخاصة. هذا في الظاهر، أما في الباطن، فأظن أن المسألة التي يخوض غمارها مروجو "الإنسانوية" اليوم أبعد من ذلك، وتطول ما تقاعست عن إتمامه المحاولات النهضوية، أي مسألة التحرر من السلطة الدينية وكل ما من شأنه أن يقزم الإنسان ويكبله، فتراكمت المظاهرات الثقافية الداعية، طورا، إلى التشديد على مفهوم المواطنة، وتارة، الترويج لعلمانية صرفة، وصولا إلى طرق باب الديمقراطية الواسعة، حاضنة العدالة والحقوق وحرية التعبير والمعتقد منتهية إلى نزوة حرية تحديد الجنس. كل ذلك دون الركون الشجاع إلى طرح إمكانية تطويرٍ عملي لمفهوم الدين العصري والمستنير، كركيزة إنسية وثقافية أساسية. فالآلهة القديمة الأيام هي دائما وأبدا جديدة وبأشكال مختلفة، ومنها ما تمظهر في إيديولوجيات العصرنة والمكننة والتطور والتحرر والاكتفاء الذاتي بالذات العاقلة سيدة الكون والمصير".
أضاف: "من ناحية أخرى، وفي حين تصارع الغرب بثنائيته التركيبية قرونا بعد الإصلاح والأنوار، ليصل إلى جمهورية خامسة في فرنسا، وإلى نماذج مختلفة لديمقراطيات توفق بين قدرات الإنسان المادية وطاقاته العقلية وطموحاته السلطوية لتسير به نحو المكننة المتنامية باضطراد، كان الشرق، ولا يزال، غير قادر على نسخ هذا النموذج الغربي ولا على تسويقه بالطريقة الفضلى، لأنه، وإلى جانب تخلفه العلمي، مشدود هيوليا وانتروبولوجيا إلى مكون ثالث في شخصيته، ما فتىء يطالب بحصته وحصته كبيرة. إنه الروح، هذا المكون الثالث في الإنسية السامية، وهو البعد التجاوزي الذي به يرتقي الشخص فردا وجماعة إلى ما هو فوق، إلها كان، ذاتا مطلقة سرمدية، أو قوة ما بعدها قوة، تحقيق نهائي في الأبد".
وتابع: "في هذا السياق، يبدو أنه غاب عن بال النهضويين ورجال الفكر والسياسة أن طريقة إصلاحية أخرى قد تكون هي الأجدى والأفعل والأكثر تأثيرا في ميدان النهوض بالإنسان المثقف وتصويب البوصلة باتجاه إنسانية حرة، سيدة نفسها، ومسؤولة ومعافاة. غاب عن بالهم أن نهضويا تقدميا وإصلاحيا متمرسا قد يكون سباقا في هذا المضمار، وهو الذي عانى، معهم ومثلهم، من بؤس الإنسان وشقائه، وقد شد العزم على المضي قدما في رسم ملامح الإنسان الذي أراد أن يكونه، حرا من كل قيد، غير متعلق بشيء سوى بالصوت الذي يدعوه إلى تخطي الذات والترقي، حيث السلطة خدمة والمسؤولية إيمان والانفتاح محبة ورجاء. وحقيقة الإنسان، كما تبدو في هذا الإطار، فأظنها ميتية لا منطقية، تماما كمفهوم الشعب كشعب كما وصفه عالم الأنتروبولوجيا الألماني، في القرن الماضي، غونتر رودولف كوش. بمعنى أنه لا يمكننا الاكتفاء بالتوصيف المنطقي لنفهم الإنسان، بل علينا الدخول إلى قلبه وروحه، ومشاركته يومياته بكل حالاتها الشاهدة على انفعالاته الجسدية الغرائزية، والنفسية العقلية والروحية التجاوزية. شربل الذي سار وراء الإنسان ليصل إلى الله، حقق هذه الشمولية الكيانية وصار إنسانا كاملا".
الجلسات
ثم عقدت جلسات بحث، شارك فيها عدد من الباحثين والأكاديميين. وتطرقت الدكتورة زهيدة درويش إلى موضوع "الانفتاح على الآخر حجر الزاوية في بنية المطران جورج خضر الفكرية والروحية". أما الدكتور جوزف المعلوف من الجامعة اللبنانية فتحدث عن مسألة "تجليات البعد الإنسانوي في فكر صادق جلال العظيم" وألقى الدكتور مشير عون من الجامعة اللبنانية أيضا محاضرة بعنوان "في إنسية بولس الخوري: ما السبيل إلى إنهاض الإنسان العربي؟ بولس الخوري مستشرفا وملهما".
السماك
ثم كانت مداخلة للدكتور محمد السماك أمين عام اللجنة الوطنية المسيحية الإسلامية للحوار بعنوان "الفكر الإنسانوي في الخطاب الديني المعاصر، الأزهر نموذجا" والدكتور سهيل القش من جامعة لافال في كندا بعنوان "مستقبل الفكر الإنسانوي العربي في مواجهة التحديات المعاصرة".
نعمة
كما ألقت نائب رئيس جامعة الروح القدس للشؤون الثقافية البروفسورة هدى نعمة محاضرة بعنوان "الإنسانوية في الفكر النهضوي العربي" أشارت فيها إلى أن "الإنساوية هي مشرقية المنشأ والهوى، عابرة للمجتمعات والإثنيات، وهي روح تنبعث لتحيا على يد نهضة فكرية عربية ليبرالية واصلاحية واسعة ومتشعبة. الأرض العربية الأصل والجذور هي موطن التعددية، ومرجعية الحرية الفكرية، ومهد الديانات السماوية... ومشكلتها أنها تحولت إلى أوطان تتآكل، وينهش فيها الإنسان الآخر باسم الدين والله".
وفي ختام مداخلتها، خلصت إلى "أن الإنسانوية هي عملية ترميم هوية، وأنه مهما اختلفت طرقها، لكنها تبقى فاعلة"، مؤكدة "أن الأبرز في هذه النهضة الفكرية العربية على اختلاف توجهاتها يبقى أنها أخرجت الى النور: البعد الإنسانوي المتجذر في الأرض غير الطارئ أو المتحدر من أفواج الغزو عبر التاريخ، البعد الرؤيوي القاضي على التواطؤ الجهنمي بين الديني والسياسي نصرة للانسان، البعد الإنقاذي لإخراج الإنسان العربي المشرقي من فخ "التلاغي القاييني" ودعوته إلى التربية على قبول الحق في الاختلاف، البعد الإصلاحي الداعي إلى "التخلي عن التركيبة الهجينة في دول المشرق العربي بهدف الوصول إلى إنشاء أكثرية متحررة قادرة على فرز إنسان عربي جديد، يثمن الكرامة والحرية الموجودتين في الديانتين المسيحية والإسلامية"، البعد التثاقفي العربي المسالم "أفق كتابه المسيح المشرقي"، البعد المسيحي كقضية إسلامية، بحكمتها المشرقية، ترفع المسلمين أو تسقطهم؛ البعد التجديدي الداعي الأديان إلى الانخراط في الحداثة، البعد الإيماني الرافض للتطرف من غير التنكر لوجود الله المتداخل مع الوجود الإنساني، البعد المعرفي فيما يتعلق بنسبوية التعبير عن الله، إيمانا من النهضويين والإصلاحيين أن ليس من فلسفة أو ثقافة أو عقيدة قادرة على ان تحتكر فهم الله، البعد التنظيمي لتأمين العيش المشترك الهادف إلى أنسنة الإنسان، وبالتالي، إلى تقليص الوحش الغرائزي الكامن فيه، وإلى تحويل السلطة إلى خدمة إنسانية، الامتناع عن اختزال الآخر، والعمل على إرساء مبدأ خلقي يسمح بالعيش الكريم، العزيز، المسالم، المنفتح والمحب، والمغني، العمل على "قطع العقد الغوردية، وإشباع وإتمام شغف العرب، المسيحيين منهم والمسلمين للوحدة العابرة للانتماءات الضيقة".